تغريد السعايدة

عمان- يجلس الطفل آدم على طاولة الطعام إلى جانب عائلته، لكن نظراته وانفعالاته تتجه نحو المقعد المجاور، حيث يتخيل وجود "صديق وهمي" يشاركه اللحظة، ويحاوره في مشاهد متكررة أثارت قلق والديه وتساؤلاتهم حول مدى طبيعية هذا السلوك.

 تقول والدته إن آدم، الذي يبلغ من العمر خمس سنوات، بدأ منذ فترة قصيرة بالتحدث إلى شخصية خيالية أثناء لعبه بمفرده في غرفته أو أثناء مشاهدة التلفاز. يروي لها تفاصيل يومه، يحدثه عن ألعابه، ويشاركه أفكاره، دون أن يتوقع منه أي رد. "هو فقط صديق مستمع".

 

ما أقلق العائلة أن هذه الشخصية ليست إحدى دماه أو ألعابه، بل شخصية غير مرئية، متخيلة بالكامل، تحمل اسما يناديه به آدم باستمرار، ما دفع الأم إلى زيارة طبيب متخصص للحصول على استشارة نفسية حول كيفية التعامل مع هذه الحالة.

"الصديق الوهمي" أو "الخيالي"، ظاهرة معروفة في علم نفس الطفل، وعلى الرغم من قلة الدراسات المتخصصة حولها، إلا أن العديد من الاختصاصيين يرون أنها في الغالب ليست حالة خطيرة، طالما أن الأهل يحيطون الطفل بالحب والفهم ويمنحونه الأمان والتوازن العاطفي.

وفي حالة أخرى، اضطرت والدة الطفلة فرح، البالغة من العمر أربع سنوات، إلى إحضار قطة للمنزل لتؤنس ابنتها وتشاركها وقت اللعب، بعدما لاحظت أنها تتحدث باستمرار مع طرف غير مرئي، وتضحك احيانا بصوت عال أثناء ذلك. تصف الأم حالتها بالخوف والارتباك، ما دفعها في البداية إلى اللجوء لأسلوب "روحاني"، ظنا منها أن الطفلة قد تعاني من حالة غير طبيعية، قبل أن تقنعها إحدى صديقاتها بعرض الحالة على طبيب مختص للحصول على تقييم نفسي وتربوي.

حينها شعرت الأم بالطمأنينة، بعد أن تبين لها أن ما يمر به طفلها ليس حالة مرضية، بل سلوك نفسي طبيعي إلى حد ما، يظهر لدى بعض الأطفال. وأكد الطبيب لها أن هذه الحالة لا تستدعي القلق، إلا في حال غياب دور الأهل، وترك الطفل لفترات طويلة دون تفاعل أو مشاركة في اللعب والحديث، مما قد يدفعه إلى الانعزال واللجوء إلى صديق وهمي دائم كبديل.

توضح الاختصاصية في الإرشاد النفسي والتربوي الأسري الدكتورة هند الجبالي، أن الأطفال في مراحل عمرية معينة قد يفاجئون ذويهم بسلوكيات غير مألوفة، كالتحدث مع شخصية خيالية، أو ترك مكان فارغ بجانبهم لصديق غير مرئي، بل وحتى نسب بعض التصرفات له، كأن يبرر الطفل خطأً ارتكبه بأن “صديقه” هو من قام به.

وتشير الجبالي إلى أن هذه الظاهرة تعرف في علم النفس بمصطلحات عدة، منها "الصديق الوهمي" أو "صديق التخيل"، وهي شخصية افتراضية يبتكرها الطفل في خياله ويتعامل معها كما لو كانت حقيقية، وقد تكون على هيئة إنسان، أو حيوان، أو حتى شخصيات كرتونية كأبطال خارقين.

وتؤكد الجبالي أن هذا السلوك لا يعد كذبا، ولا يدل على وجود اضطراب نفسي، بل يصنف كأحد أشكال اللعب والتعبير العاطفي. وفي بعض الحالات، قد يكون انعكاسا لعالم داخلي مليء بالخيال.

وتظهر هذه الظاهرة عادة بين سن الثالثة والسابعة، وهي مرحلة تتميز بخيال واسع ونشط. وتشير الدراسات إلى أن ثلث الأطفال تقريبا قد يمرون بتجربة الصديق الوهمي، ويعدها العديد من المختصين دليلا على تطور الخيال عند الطفل وفهمه للعالم.

ومن تعليقها على هذا الأمر، تتحدث أيضا زينب عن ابن شقيقتها ذي الخمس سنوات، الذي يقوم بترتيب "طابور" من الوسائد الصغيرة في البيت، ثم يبدأ بمحادثتهم كما لو كان يتحدث مع أشخاص حقيقيين، يتفاعل معهم بكل عفوية وطفولة. والطريف في الأمر أنه أحيانا ينفعل ويغضب، وكأن إحدى تلك الوسائد تعمدت معاندته، فيصب غضبه عليها.

قد تختلف هذه الحالة عن سابقاتها، لكنها تبقى ضمن إطار خيال الطفل وتفاعله مع الأدوات المحيطة وكأنها أشخاص يشاركونه اللعب والنشاطات اليومية. وتنوّه زينب هنا إلى أن ابن شقيقتها هو وحيد في العائلة، ويعيش في بلد بعيد عن أقاربه وعائلته الكبيرة، وتظن أن هذا قد يكون سببا لهذا السلوك. وتضيف الجبالي أن هذه الظاهرة باتت منتشرة بين الأطفال، رغم قلة الدراسات التي تناولتها، وقد يكون سبب بروز الحديث عنها هو ازدياد وعي الأهل، ومراقبتهم لسلوك أبنائهم عن كثب، وتبادل هذه الملاحظات عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما أن تراجع التفاعل الاجتماعي الحقيقي بين الأطفال في السنوات الأخيرة، وتوجّههم نحو العالم الافتراضي، ساهم في بروز هذا النوع من السلوك الطفولي.

ومن الأسباب الأخرى، كما تبين الجبالي، الإفراط في استخدام الهواتف الذكية لدى الأطفال، والذي يسهم في تنشيط خيالهم بشكل مفرط، إلى جانب انشغال الأهل وضغوط الحياة اليومية، ما يخلق شعورا بالوحدة العاطفية لدى الطفل، فيلجأ إلى هذا النوع من الخيال.

وحول ما إذا كان هذا السلوك يستدعي القلق، تقول الجبالي: إذا استمرّت هذه الحالة بعد سن الثامنة أو التاسعة، ولاحظ الأهل انسحاب الطفل من واقعه، وابتعاده عن التفاعل مع الآخرين، أو إذا بدأ في تبرير سلوكياته بشكل دائم من خلال هذا الصديق، مع ظهور أعراض مقلقة مثل التبول اللاإرادي، القلق المستمر، أو السلوك الغريب أو الانسحابي، عندها يجدر بالأهل استشارة مختص نفسي لتقييم الحالة.

بيد أن هناك حالات يمكن اعتبارها غير طبيعية، ويجب على الأهل الالتفات إليها بشكل أكبر. وتبين الجبالي أن هناك أسبابا تجعل من حالة الطفل تتجاوز الحدود المقبولة، ويمكن ملاحظتها من خلال غياب الأصدقاء الحقيقيين في حياة الطفل.

وقد يظهر الصديق الوهمي بشكل سلبي في حال تعرض الطفل لصدمة عاطفية أو فقدان أحد أفراد الأسرة، أو نتيجة لتشجيع غير مقصود من الأهل على وجود هذا الصديق، كما يحدث عند سؤالهم مثلا: "كيف حال صديقك؟"، لذا من الضروري الانتباه لحالة الطفل النفسية والسلوكية.

ورغم ذلك، تشير الجبالي إلى أن وجود الصديق الوهمي قد يحمل بعض الإيجابيات في حياة الطفل، إذ يعد وسيلة للعب، وأداة تساعده على تطوير مهارات الحوار والتفاعل الاجتماعي، كما يمكن أن تساهم في مساعدته على التأقلم مع التغييرات من خلال تفريغ طاقته الداخلية، وتعزيز خياله، والتعبير عن مشاعره.

وتنصح الجبالي الأهل بضرورة التعامل بحذر مع هذه الظاهرة، دون الاستهزاء بها أو خلق شعور بالخوف لدى الطفل تجاه صديقه الوهمي، كما لا يجب إنكار وجوده. بل ينبغي الاستماع للطفل بهدوء ومن دون تهويل، وتشجيعه على اللعب الواقعي والتفاعل الاجتماعي، وتهيئة بيئة تضم أطفالاً يشاركونه اللعب.

وتؤكد الجبالي على أهمية تجنب التفسيرات غير العلمية أو اللجوء إلى تفسيرات خطيرة لهذه الظاهرة، مشيرة إلى ضرورة مراجعة مختص نفسي أو تربوي في حال تصاعد القلق لدى الأهل، إذ إن وجود الصديق الوهمي لا يعد خللا مرضيا بحد ذاته، بل إن الاحتواء والدعم العاطفي للطفل ومراقبة التغيرات التي تطرأ عليه، تمثل أفضل الطرق للتعامل مع هذه الحالة. خاصة أن الأطفال في هذه المرحلة العمرية لا يميزون تمامًا بين الخيال والواقع أو بين الصدق والكذب، وهو أمر يعد طبيعيا في سياق نموهم، ما لم تظهر علامات غير طبيعية تستدعي للقلق.

 

JoomShaper