ديمة محبوبة

تتجول مريم في أحد المولات التجارية، تتأمل واجهات المحال التي تزينت بملابس بألوان الباستيل وقصات فضفاضة، مستوحاة من موضة "الريترو" التي كانت رائجة في عقود مضت.

تتذكر مريم أنها اشترت قبل نحو شهرين قطعة بلون معدني من إحدى الماركات العالمية، أخبرتها البائعة حينها بأنها "أهم قطعة في الموسم"، لكنها اليوم لم تعد ترتديها، إذ تشعر بأنها خارج سياق الموضة، وكأنها غريبة عما يرتديه من حولها.

تقول إنها غالبا ما ترتدي ملابس لا تقتنع بها تمامًا، لكنها تفعل ذلك فقط حتى لا تبدو مختلفة عن زميلاتها في الجامعة، وتتجنب أن تكون مادة للتنمر أو السخرية.

وتشير أيضا إلى الإرهاق المادي الذي تعانيه في محاولة مجاراة ما يرتديه أبناء جيلها، وما تفرضه ترندات مواقع التواصل الاجتماعي، من ألوان وتصاميم تتغير بوتيرة سريعة يصعب مواكبتها.

وتضيف، وهي تنظر إلى صور والدتها القديمة، بأنها كانت تستطيع تمييز الزمن الذي التقطت فيه الصور من شكل الأزياء، سواء في السبعينيات أو الثمانينيات أو حتى التسعينيات، إذ كانت الموضة أكثر وضوحا واستقرارا.

ما تشعر به مريم لا يخصها وحدها، بل يعبر عن جيل بأكمله، بات يلهث خلف موجات موضة لا تتوقف، تتغير وتتبدل بسرعة تشبه سرعة تطور التكنولوجيا، حتى أصبح من الصعب التقاط الأنفاس أو إيجاد هوية شخصية وسط هذا التبدل المستمر.

تشدد مريم على ما قالته لها والدتها مرارا، بأن لكل عقد زمني في الماضي بصمته الواضحة في عالم الأزياء؛ فالتصاميم كانت تحمل طابعا خاصا، الألوان مميزة، والأقمشة تعكس روح المرحلة. فالكتف العريض والألوان الصاخبة كانت سمة الثمانينيات، فيما تميزت التسعينيات بجينز "الباغي" وتي-shirts الفرق الموسيقية.

أما اليوم، فلم تعد بداية السنة تشبه نهايتها. ما إن تظهر صيحة جديدة على "تيك توك" أو تتألق بها مؤثرة على "إنستغرام"، حتى تبدأ مصانع الأزياء في إنتاج موجة جديدة من التصاميم، تغرق السوق وتقصي ما قبلها دون تردد. بات الأفراد يبدلون مظهرهم باستمرار، لا يعبرون عن ذوق أو هوية، بل هو خوف من أن يظهروا "خارج الموضة.. وخارج السياق".

ويعلق الخبير الاقتصادي حسام عايش على هذا التسارع من منظور السوق، موضحا أن صناعة الأزياء لم تعد تقتصر على مجموعتين سنويا كما في السابق، بل باتت تنتج مئات التصاميم سنويا ضمن ما يعرف بـ "الموضة السريعة" (Fast Fashion).

ويشرح أن هذا النمط يعتمد على إيجاد حاجة دائمة لدى المستهلك، وإقناعه بأن ما يملكه من ملابس بات قديما خلال أسابيع قليلة فقط. الهدف، كما يوضح، لم يعد تلبية حاجة حقيقية، بل تحفيز الشراء المستمر، ولو على حساب الذوق الشخصي.

ويضيف عايش أن هذا النظام الاستهلاكي يحوّل الأفراد إلى متلقين خاضعين لما تفرضه المنصات الرقمية والمؤثرون والعلامات التجارية الكبرى، دون أن يتيح لهم فرصة حقيقية لاختيار ما يعبر عنهم وعن شخصيتهم.

لم تعد الأزياء انعكاس لشخصية الفرد، بل أصبح الفرد نفسه انعكاسا لها، بهذه الكلمات يختصر الخبير عايش المشهد المتبدل لعلاقة الإنسان بالموضة.

ومن الجانب الاجتماعي، يرى أستاذ علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي، أن الموضة تحولت من كونها تعبيرا عن هوية جماعية إلى حالة استهلاكية فردية بلا ملامح. ففي الماضي، كان من السهل تمييز جيل كامل من خلال نمط ملابسه، أما اليوم، فالفرد يبدل مظهره كل بضعة أشهر، مما أفقد الشكل الخارجي دلالاته المرتبطة بالثقافة أو الطبقة أو حتى العمر.

ويضيف الخزاعي أن هذا التغير المتسارع لا يمنح الأفراد وقتا كافيا لتكوين ذوقهم الشخصي أو تطوير وعيهم بما يرتدونه، مشيرا إلى أن جزءا من المشكلة يعود إلى غياب المرجعيات الثقافية في اختيار المظهر، إذ لم يعد الفرد يستمد ذوقه من بيئته أو تاريخه، بل مما يظهر على الشاشات الصغيرة، التي تملي عليه ما هو جميل، وما بات قديمًا.

أما من الناحية النفسية، فتشير التربوية والمرشدة النفسية رائدة الكيلاني إلى أن التبعية المستمرة للموضة تترك أثرا عميقا على نفسية الأفراد، لا سيما في الفئات العمرية الصغيرة.

وتؤكد أن المراهقين أصبحوا يعيشون تحت ضغط دائم لمجاراة كل ما هو رائج، ما ينعكس على تقديرهم لذاتهم، ويولد لديهم مشاعر قلق ونقص.

وتتابع: "الأمر لا يقتصر على الملابس، بل يشمل قصات الشعر، شكل الحاجب، الذقن، والإطلالات العامة… فالشاب أو الفتاة قد يشعر أنه غير مقبول اجتماعيا فقط لأنه لم يشتر القميص الذي يرتديه الجميع هذا الموسم".

تقول الكيلاني إن هذا النوع من الضغط يولد حالة مستمرة من المقارنة مع الآخرين، ما يقود إلى إنهاك نفسي واجتماعي لدى الأفراد، خصوصا حين يشعر آخرون بأنهم لا ينتمون إلى محيطهم فقط لأنهم غير قادرين على شراء قطعة معينة أو مواكبة ما هو رائج في عالم الموضة.

ووفق الكيلاني فإن تأثير الموضة لم يعد سطحيا كما يظن البعض، بل بات يتسلل إلى عمق التكوين النفسي، ويؤثر على الصورة الذاتية والثقة بالنفس، لا سيما لدى المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في مرحلة حرجة من بناء الهوية.

 

 

وترى إلى أن اللافت اليوم هو هشاشة الذوق الشخصي وتقلبه، إذ يبدو أن كثيرين لم يعودوا قادرين على تمييز ما يعجبهم فعلا، وما يختارونه فقط لأنه شائع ومقبول على الجانب الاجتماعي.

ويعود الخزاعي ليؤكد أن أدوار العائلة تراجعت لصالح المؤثرين على الإنترنت الذين يروجون لصيحات جديدة بشكل يومي، تمتد حتى إلى تفاصيل شكل المنزل وتنسيقاته وألوانه.

هذا النوع من الاستهلاك غير الواعي، وفق الخبير عايش، لا يؤثر فقط على ميزانية الفرد، بل على البيئة أيضا، نتيجة الإفراط في الإنتاج والتخلص السريع من الملابس.

فكثير من القطع ترمى قبل أن تستهلك فعليا، فقط لأنها لم تعد تواكب ما هو رائج، ما يؤدي إلى زيادة في النفايات واستنزاف الموارد الطبيعية، كل ذلك في سبيل الحفاظ على صورة مؤقتة وجمالية زائفة.

ورغم هذا الواقع، لا يدعو الخبراء إلى محاربة الموضة أو الانفصال عنها، بل إلى استعادة دور الفرد في الاختيار الواعي، وتعزيز الذوق المستقل. وتقول الكيلاني: "من واجب الأهل والمدارس أن يغرسوا في الأطفال والمراهقين قيم التمييز بين ما يناسبهم فعلا، وما يفرض عليهم بفعل الضغوط الرقمية والاجتماعية".

وتختم بالتأكيد على أهمية الحديث مع الأبناء عن القيم الجمالية الحقيقية، وليس فقط عن الموضة، فبناء شخصية متوازنة يبدأ من احترام الذات، لا من ارتداء ما يرتديه الآخرون.

JoomShaper